الحرية الرقمية في تراجع.. منظمات حقوقية تحذر من نزعة استبدادية داخل الديمقراطيات الغربية
الحرية الرقمية في تراجع.. منظمات حقوقية تحذر من نزعة استبدادية داخل الديمقراطيات الغربية
حذّرت منظمة فريدوم هاوس الأمريكية من تآكل متسارع في مساحات الحرية على الإنترنت داخل عدد من الدول الديمقراطية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا، مشيرة إلى أن ما كان يُعدّ في السابق فضاءً مفتوحاً للتعبير بات يخضع اليوم لقيود غير مسبوقة.
تقرير المنظمة السنوي، الصادر اليوم الخميس، رسم صورة قاتمة عن واقع الحريات الرقمية في العالم، مؤكداً أن حرية الإنترنت تراجعت للعام الخامس عشر على التواليـ وأوضح أن من بين 70 دولة شملها التقييم، شهدت 28 دولة تدهوراً واضحاً في أوضاع حرية التعبير على الشبكة، مقابل تحسن محدود في 17 دولة فقط، بينما بقيت باقي الدول في مستويات متدنية أصلاً، وفق فرانس برس.
تآكل الحريات داخل الديمقراطيات
لفت التقرير إلى أن التراجع لم يعد مقتصراً على الأنظمة الاستبدادية المعروفة تاريخياً بقمعها للمجال العام، بل امتد إلى ديمقراطيات راسخة كانت تُصنَّف لعقود في مقدمة المدافعين عن حرية الرأي والتعبير، وقال الباحث كيان فيستينسون، أحد معدّي التقرير، في تصريح أوردته وكالة الأنباء الفرنسية، إن موجة التضييق باتت تشمل حتى الدول التي طالما قدّمت نفسها كحامية لحقوق الإنسان. وأضاف أن عام 2025 شهد اتجاهاً واضحاً نحو "تدابير أكثر تشدداً في الدول الديمقراطية بدعوى حماية الأمن القومي أو مكافحة التضليل، لكنها في الواقع تحدّ من الحقوق المدنية".
الولايات المتحدة: انخفاض غير مسبوق
وفق التقرير، تراجعت الولايات المتحدة ثلاث نقاط في مؤشر حرية الإنترنت لتسجل 73 من أصل 100 خلال الفترة الممتدة بين يونيو 2024 ومايو 2025، وهو أدنى مستوى تصل إليه البلاد منذ بدء التصنيف، وأرجعت المنظمة هذا التراجع إلى سلسلة من الإجراءات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ضد مستخدمين أجانب على خلفية نشاطهم الإلكتروني، فضلاً عن ازدياد المراقبة الحكومية وفرض قيود على المحتوى السياسي بحجة مكافحة التضليل والأمن السيبراني.
وأشار التقرير إلى أن الولايات المتحدة كانت لعقود معياراً للحرية الرقمية في العالم، لكن الانقسامات السياسية الحادة والتشكيك الواسع في المعلومات عبر الإنترنت أدّيا إلى تنامي الرقابة الرسمية وغير الرسمية، كما نبه إلى اتساع نطاق التوقيفات والملاحقات القانونية بحق أفراد وجماعات بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، في ما يعتبره معدّو التقرير مؤشراً على انحسار المساحة المتاحة للنقاش الحر.
تشديد الرقابة باسم الكراهية
أما ألمانيا، فقد شهدت انخفاضاً مماثلاً بثلاث نقاط لتستقر عند 74 نقطة، وأوضح التقرير أن تطبيق القوانين الخاصة بخطاب الكراهية على الإنترنت أصبح أكثر صرامة خلال العام المنصرم، الأمر الذي أدى إلى انتشار ظاهرة الرقابة الذاتية بين المستخدمين والصحفيين والنشطاء، كما أشار إلى أن الإجراءات الحكومية، وإن كانت تستهدف الحد من التطرف والتحريض، تسببت عملياً في تقليص مساحة النقاش العام.
ورصدت المنظمة تزايد الشكاوى من حذف محتوى سياسي أو اجتماعي حساس، إلى جانب تغليظ العقوبات بحق منصات التواصل التي تتأخر في إزالة المنشورات المخالفة، ويؤكد التقرير أن هذه السياسات، رغم أهدافها المعلنة، "تخلق مناخاً من الخوف والامتناع عن التعبير"، وهو ما يهدد تقاليد حرية الصحافة والتعبير في واحدة من أكبر الديمقراطيات الأوروبية.
اتجاه عالمي نحو السيطرة الرقمية
بحسب فريدوم هاوس، فإن التراجع في الحريات الرقمية ليس حدثاً معزولاً بل جزء من نزعة عالمية متنامية تسعى فيها الحكومات إلى إحكام قبضتها على الفضاء الإلكتروني، فقد سجّلت دول عدة في آسيا وإفريقيا وأوروبا الشرقية تراجعاً مشابهاً، مدفوعة بالرغبة في مراقبة الخطاب العام ومنع التعبئة السياسية عبر الإنترنت. وتشير المنظمة إلى أن أكثر من 70% من مستخدمي الإنترنت في العالم يعيشون اليوم تحت رقابة حكومية مباشرة أو غير مباشرة.
وأوضح التقرير أن تقنيات الذكاء الاصطناعي زادت من تعقيد المشهد، إذ تُستخدم أدوات التحليل الآلي ورصد البيانات لتعقّب المستخدمين ومراقبة توجهاتهم السياسية، كما تُستغل هذه التقنيات في إنتاج حملات تضليل ممنهجة، تشترك فيها أحياناً جهات حكومية أو شركات خاصة تابعة لها مصالح سياسية واقتصادية.
حرية الإنترنت بين الأمن والمجتمع
يرى معدّو التقرير أن الحكومات الغربية تواجه معضلة متزايدة بين حماية الأمن القومي وصون الحريات المدنية، فالتحديات الجديدة مثل التضليل العابر للحدود، والهجمات السيبرانية، وخطابات الكراهية والعنصرية المتنامية تدفعها إلى سن قوانين أكثر تقييداً، لكنهم يحذرون من أن الإفراط في هذه الإجراءات قد يؤدي إلى "تطبيع الرقابة" وتحويل الديمقراطيات تدريجياً إلى أنظمة ذات نزعة سلطوية.
وأشارت المنظمة إلى أن بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة بدأت تتبنى سياسات رقمية مشابهة لتلك التي تطبقها أنظمة استبدادية، مثل توسيع صلاحيات المراقبة الأمنية، وإغلاق حسابات ناشطين، ومنع تطبيقات معينة أو الحد من الوصول إلى محتوى سياسي حساس.
تداعيات على الإعلام والمجتمع المدني
يلفت التقرير إلى أن المنظمات الحقوقية والصحفيين الاستقصائيين أصبحوا من أكثر الفئات تضرراً من تضييق الفضاء الرقمي، ففي دول عدة، من بينها الولايات المتحدة وألمانيا، أبلغت مؤسسات إعلامية عن زيادة في طلبات الكشف عن مصادرها أو حذف تقارير من المنصات الرقمية، كما لاحظت فريدوم هاوس تراجع الثقة العامة في وسائل الإعلام المستقلة نتيجة الحملات المنظمة ضدها، ما يعمّق أزمة المعلومات الموثوقة في المجتمعات الديمقراطية.
دعت المنظمة الحكومات الديمقراطية إلى مراجعة سياساتها الرقمية بما يضمن التوازن بين الأمن والحرية، وأكدت على ضرورة سنّ تشريعات تحمي المستخدمين من المراقبة المفرطة، ودعم الشفافية في إدارة المحتوى على المنصات الرقمية، كما طالبت بتمكين الصحافة المستقلة ومنظمات المجتمع المدني من أداء دورها الرقابي دون تهديد أو تضييق.
وختم التقرير بالتحذير من أن العالم يدخل مرحلة جديدة من "الاستبداد الرقمي"، حيث تُستخدم التكنولوجيا ليس فقط للسيطرة على المعلومات، بل لإعادة تشكيل السلوك العام، وأضاف أن الحفاظ على حرية الإنترنت لم يعد مسؤولية النشطاء وحدهم، بل تحدٍ وجودي للديمقراطية نفسها، لأن تآكل الفضاء الرقمي الحر يعني تآكل المجال العام بأسره.










